يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: «وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ.. فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا».. مُؤكدًا في أبياته الشعرية تلك أن التمسك بالأخلاق هو سبب بقاء واستقرار الدول وتقدمها وازدهارها، فالأمم تضعف إذا ما تراجعت فيها الأخلاق وتهاوت القيم والمبادئ الراسخة.
نلاحظ في الآونة الأخيرة، أن مواقع التواصل الاجتماعي، أضحت ساحة لتصفية الحسابات ومنبرًا للسب والشتم والقذف.. وتحوّلت هذه المنصّات الرقمية من مساحة للتعبير عن الرأي إلى معارك ونزاعات وعدم احترام للرأي الآخر، حيث تزايدت المنشورات المُسيئة بين المُغرّدين، وكأن التعبير عن الاختلاف في الرأي الذي يفترض ألا يُفسد للود قضية لا يمكن طرحه إلا بتعابير مُخلة تشير إلى تدني المُستوى الأخلاقي.
مع العلم بأن التعبير عن الرأي أمر طبيعي وحق مكفول في حرية الإنسان، ولكن نشر كلمات عدائية ومُبتذلة والجهر بالسوء وقذف الآخرين والتشهير بهم دون أي أدلة، لا يكفله أي حق أو دين، فهناك ضوابط وقواعد وقوانين يجب التزامها، فالمكتوب أشد توثيقًا وتثبيتًا من المنطوق وله أثر كبير في ترسيخ الثقافة والتأثير الاجتماعي، خاصة لدى الأطفال الذين يستخدمون وسائل التواصل بشكل كبير.
وبالرجوع إلى الأسباب التي أدّت إلى الانحدار والتردي في مُحتوى منشورات السوشيال ميديا واستخدام الكلمات غير اللائقة أخلاقيًا في التعليقات نجد أن العالم الافتراضي مُتاح للجميع وسهل الاستخدام من قِبل كافة الناس بغض النظر عن تعليمهم وتربيتهم ودوافعهم ومُستواهم الثقافي، فالجاهل أيضًا يملك حسابًا على منصات التواصل الاجتماعي يستطيع من خلاله نشر ثقافة الجهل وزرعها بين الناس.
ولا شك أن للأخلاق والقيم أهمية كبيرة في تحقيق نوع من الاستقرار الاجتماعي، يتم فيه احترام القواعد الأخلاقية السائدة في المُجتمع، فإذا كان الجمال يجذب العيون، فالأخلاق تملك القلوب، وﺣﻴﻨﻤﺎ أراد الله وصف ﻧﺒﻴﻪ صلى الله عليه وآله وسلم، ﻟﻢ ﻳﺼﻒ ﻧﺴﺒَﻪ أو ﺣﺴﺒَﻪ أو ﻣﺎﻟﻪ أو ﺷﻜﻠﻪ، ﻟﻜﻦ قال ﺗﻌﺎﻟﻰ: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، ورسولنا الكريم قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»، فمكارم الأخلاق تحتل أكبر مساحة من الدين، بل إن الدين كله خُلق، فإذا انتفى الخُلق ذهب الدين.
ونستطيع القول إن تنشئة الأجيال ليست عبئًا فقط على الأسرة، بل للمناهج التعليمية والتربوية دور كبير في زرع الأخلاق في الأبناء، ويقولون إن في دولة مثل اليابان هناك مادة أساسية تدرّس في مناهجهم من مرحلة الروضة حتى نهاية المراحل الجامعية تسمّى مادة «الأخلاق» لها درجات نجاح ورسوب وتأثير على المُعدّل العام للطالب وعلى مُستقبله الوظيفي في مرحلة لاحقة، وأن تلك المادة صِيغت من قبل خبراء في علم النفس والسلوك والقيم الاجتماعية والروحية، وأنها مع مرور الأيام والأعوام تحوّلت إلى سلوك راقٍ عام يندر أن يشذ عنه أحد من سكان اليابان بمن فيهم الذين هاجروا إليها للعمل أو الإقامة الدائمة من دول الشرق المُجاورة أو من القارة الهندية، لأن أي سلوك خارج عن دائرة الأخلاق أصبح مُستهجنًا استهجانًا عامًا يجعل مُرتكبه «يذوب» من الخجل وقد يتعرّض لعقوبات قانونية صارمة، إضافة إلى ما واجهه من ازدراء عام.
وسر التطور الهائل الذي تحظى به هذه الدولة يكمن في أن اليابانيين قد أعلوا من مكانة الأخلاق في حياتهم فعلاً لا قولاً وجعلوها مقياسًا لما يناله الفرد منهم من تميز ومزايا حتى لو كان عامل نظافة، فالأخلاق هي المقياس الأساسي لا الدرجة العلمية ولا المكانة الاجتماعية ولا المواقع الوظيفية أو المالية.
والله ولي التوفيق .
أستاذ الهيدروجيولوجيا والبيئة بجامعة قطر