أثبتت التجارب أن «لعبة الكراسي» التي لطالما لعبناها في طفولتنا لها تأثير كبير في مُستقبل أطفالنا، حيث تقوم اللعبة على ترتيب الكراسي في دائرة مُغلقة، ويقف اللاعبون في دائرة مُحيطة بالكراسي ينتظرون الإشارة من المُشرف على اللعبة، فيسارع كل طفل للجلوس على كرسيه، ومن حظي بالكرسي هو الفائز، ومن لم يتمكّن من الحصول عليه خرج من اللعبة، فتتناقص الكراسي شيئًا فشيئًا كما يتناقص عدد الأطفال، حتى يبقى كرسي واحد لطفلين، أحدهما الفائز والآخر خاسر، وبذلك يتعلم الطفل «ثقافة الفوز» الفردي والسعادة الفردية من خلال إزاحة غيره من الأطفال، ثقافة «أنت تربح، وغيرك يخسر» لا ثقافة «الكل يربح»، ثقافة «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
أما إذا نظرنا إلى «لعبة الكراسي» في المدارس ورياض الأطفال اليابانية فسنجد أنها لعبة مُغايرة عن لعبتنا، حيث يكون عدد التلاميذ أكبر من عدد الكراسي، فإذا بقي أحد الأطفال بدون كرسي، يخسر الجميع، فيحاول جميع الأطفال احتضان بعضهم بعضًا لكي يستطيع مثلًا عشرة أطفال الجلوس على تسعة من الكراسي، ومن ثم يقللون عدد الكراسي تباعًا، مع ثبات قاعدة أساسية مفادها: «إن على التلاميذ التأكد من أن أحدًا منهم لا يبقى بدون كرسي، وإلا خسروا جميعًا»، وبذلك يتعلم الطفل قاعدة: «إن ثقافة الفوز لا تتم بدون مساعدة من الآخر» وهي ثقافة التعاون والعمل بروح الفريق والنجاح الجماعي.
وهذه هي ثقافة الإيثار والشراكة، ثقافة الرابح الذي يفسح المجال لغيره لكي يجلس بجواره على الكرسي، ليكون رابحًا مثله، أما ثقافة «لعبة الكراسي» العربية فهي ثقافة التنافس الأناني، الذي يرسخ في عقلية أطفالنا الفوز للأقوى، للأسرع (قانون الغابة)، نعلمهم أن الموارد قليلة وشحيحة، لذا يجب المُسارعة لاقتناص الفرص، وإن كان على حساب الآخر، أصحاب هذه العقلية يعتبرون نجاح الآخرين خسارة لهم، ويصعب عليهم التعاون مع غيرهم، إنهم يفكرون بمنطق أربح ويخسر الآخرون، إنه اتجاه نفسي ينظر إلى الحياة كحلبة صراع، وميدان سباق لا يستفيد فيه أحد إلا على حساب خسارة الطرف الآخر.
للأسف من خلال هذه اللعبة نثبت في عقل الطفل قاعدة أن المصلحة الفردية أهم وأولى بالاهتمام من المصلحة الجماعيّة، ونؤسس – من حيث ندري أو لا ندري – لثقافة الأثرة ونزعة الأنانية.
أما اليابانيون فيغرسون حب الفريق في طفل الروضة، ويؤسسون لأولوية المصلحة العامّة، يعلمون أبناءهم ثقافة الوفرة، وأن في الحياة عطاءً ومُتَّسَعًا لكل إنسان، فالجميع مُرَحَّب به للمشاركة في المكانة والاعتبار والمنافع والتخطيط وصناعة القرار، والفرص متاحة للجميع للعمل والإنجاز والنجاح كما يقول ستيفن آر كوفي في (العادات السبع للناس الأكثر فاعلية).
يلقنون أطفالهم أن الربح الحقيقي والاستراتيجي ليس الربح الفردي، وإنما ربح الجماعة، شعارهم في ذلك (نربح ويربح الآخرون) هذا المبدأ الذي يرى الحياة ساحة تعاونية استيعابية لا تنافسية تناحرية.
ويحصدون نتيجة ذلك الغراس سيادةَ أخلاق الإيثار والتضحية، وانتشارَ ثقافة التطوّع وقيم الخدمة المجتمعيّة، وتبدو ثمار هذه التربية الراقية بادية للعيان في احترام الطفل الياباني للدور (الطابور)، في حرصه على نظافة الأماكن العامة وعلى العناية بمدرسته (التي ليس فيها عمال نظافة، بل يقوم التلاميذ مع مُعلميهم بتنظيف فصولهم الدراسية ومرافقهم الصحية)، وتظهر كذلك في الطريقة المثلى التي تُدار بها الشركات اليابانية، التي حسنت إنتاجيتها وتنافسيتها العالميّة بسبب خصائصها المُتميّزة.
والله ولي التوفيق،،،