الناسُ في رمضانَ صنفان: صنفٌ قد حدّد هدفه، فهو يعلم ماذا يُريد من الشهر الكريم، وما هي الثمرة التي يرجو تحصيلها، وصنفٌ آخر غافل لاهٍ مفرِّط، تستهويه أنواع الملهيات، التي تسلب منه أفضل أوقات العام، لهذا عليك – عزيزي القارئ – أن تحدّد هدفك من الآن، واستعن بالله ولا تعجز ولا تتشتت، فإنَّ المحروم من حُرِمَ الأجر في موسم الأجور.
لا شكّ أن رمضان فرصةٌ عظيمةٌ للتأمل في أخلاقياتنا وسلوكياتنا ومبادئنا، وكذلك فرصةٌ لكي نشعر بالآخرين المحرومين من مَلذات الحياة وأبسطها الطعام، وأيضًا فُرصة لنطهّر أنفسنا من الغضب، وفرصة لنتدرّب على التسامح وعمل الخير، وكيف نُخلِص في طاعاتنا وفي عملنا، فالشهر ليس للنوم أو قضاء الوقت أمام الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، بل للعمل الجاد والمُخلص ولتوزيع الخير على الناس.
الشهر الكريم يرتبط في أذهان الناس بسلسلة طويلة من القيم الإنسانية والعادات السلوكية والفضائل التي تتغلغل إلى داخل النفس وتُحدِث حالة من التهذيب الروحاني وتشمل أفراد المُجتمع بنوع من الرضا، فالشهر الكريم بروحانياته أداة لتغيير السلوك وفُرصة حقيقية لإحداث نقلة نوعية في حياة أفراد المُجتمع، وهو ما يجب استثمارُه، لأن الطبيعة الإنسانية تحتاج كل فترة إلى من ينبّهها ويُضيء لها الطريق ويُصوّب لها الأخطاء.
ويُعدّ الشهر الفضيل أيضًا فرصة للتخلّص من العصبية الزائدة، وباعثًا قويًا على الانتظام في أداء الصلوات الخمس وفعل الخيرات، وضبط النفس والتفاعل مع المُجتمع وأفراده بشكل إيجابي، واتخاذ نمط رياضي للحفاظ على الصحة النفسية والجسدية، وغيرها الكثير من الجوانب التي تجعل النفس تلمع من الداخل، بما يبث روح الاطمئنان في نفوس أفراد المُجتمع، كما أن الصيام في حد ذاته علاج قوي وفعّال ضد الكثير من الأمراض.
ونُلاحظ أن الكثير من الأبحاث تنصح بالتدريب على كبح الشهوة والسيطرة على الرغبات بالصيام، بل هناك المئات من المُؤسسات والمراكز الطبية تتخصّص في العلاج بالصيام، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأمريكية للصحة الطبيعية.. إلخ، هذا فضلًا عن العديد من الجمعيات والمراكز في أوروبا، بالإضافة إلى المراكز الطبية الموجودة في آسيا (اليابان والهند والصين)، والتي من المعلوم أن لها في تقاليدها الدينية القديمة اهتمامًا وتقديرًا للصيام.
وبالإضافة إلى المراكز والمؤسسات الطبية التي تلجأ إلى الصيام كطريقة علاجية، هناك مئات من الكتب والأبحاث التي تناولت الصيام من مُختلف الجوانب والأبعاد؛ ومن بين الأدبيات الكلاسيكية في موضوع الصيام نذكر: كتاب (هربرت شيلتون) «الصيام»، وكتاب (نيكولايف بيلوي) «الجوع من أجل الصحة»، و»الصيام» لـ (جيسبير بولينغ)، و»الصيام والصحة» لـ (ميريان ديزيري) وغيرها من الكتب والمؤلفات العلمية المُتعلقة بالصيام.
وبناءً على كل ما تم ذكره يجب أن يتم التخطيط لشهر رمضان بذكاء، حتى تحدُث الاستفادة القصوى منه، وذلك بوضع خُطة إيمانية كاملة يربح من خلالها المُسلم الثواب الكبير، فإذا نجح المُسلم في استشعار قيمة الشهر فإنه سينجح في حصد الثواب العظيم والقيام بصالح الأعمال، كما أن قدوم رمضان في ظل الجائحة للعام الثاني على التوالي قد يكون منحة إلهية، ونستطيع أن نحوّله إلى فُرصة كبيرة ليكون من الشهور العظيمة التي مرّت علينا، صحيح أننا نفتقد فيه كثيرًا من الأمور التي تعوّدنا عليها، مثل صلاة التراويح بالمساجد وصلة الأرحام والزيارات، لكن بإمكاننا أن نستمتع فيه بخلوة طويلة لو أحسنا ترتيب أوقاتنا، وأحسنا استغلالها لنحقق فيها الكثير من الطاعات في الجانب الإيماني وجانب العلاقة مع الله عزّ وجلّ.
والله ولي التوفيق.
أستاذ الهيدروجيولوجيا والبيئة بجامعة قطر